أروي لكم اليوم عن أخي الذي لم تنجبه أمي، مدحت عفيف الدين.
صديقي الذي ناداني يوما بإصرار لأرى شيئا مهما وكان ذلك ورقة خطها حبيبي الغائب قبل سفره، في محاولة لكسر الكآبة التي تعتريني،
صديقي الذي نتحدث معا لساعات طوال عن أحاسيسنا، عن مستقبل البلد، تشاركنا الأحلام والجدال والدموع والأفراح،
التقيته في منتصف العام 2011 عندما وافاني الحظ بالعمل كمتدربة بمركز الخاتم عدلان للإستنارة، الذي أغلقه الأمن في نهاية العام 2012،،
كان العمل معه في نفس المساحة أشبه بأن تتسكع مع أقرب أصدقائك،
ومن المفارقة أننا تربينا في ذات المدينة، ود مدني، وصادقنا نفس الأشخاص ولكننا لم نلتق مسبقا قط حتى تلك اللحظة..
قضينا الساعات الطوال نتسامر بشغف عن ذكرياتنا في ودمدني، عن الفكي أبوحمامة صاحب الفناء المفروش بالذرة وعن زبائنه من الشخصيات المرموقة، أخبرته بشغف عن المرة التي دخلت فيها غرفته مرافقة لأحدى النساء من أقاربي، وهو يملك صقر وحمامة وثعبان في الغرفة...
تحدثنا كثيرا عن الفنانات الشهيرات في حقبة مراهقتنا مثل المغنية والفنانة الإستعراضية منى هول، واختفائها من الساحة الغنائية بمقابل الشهرة التي نالتها انصاف مدني وكيف أننا نفضل الأستاذة منى.
تحدثنا بحنين وشجن عن صديقنا الراحل حسام الهادي "الأسد" الذي خسر معركته ضد المرض مبكرا وهو في السنة الخامسة من كلية الهندسة،
وعن الألم الذي خلفه رحيله..
أنصت بحزن للتجارب التي عايشها مدحت وحسام سويا في الجنوب أثناء قضائهم للخدمة الإلزامية في العام 1998، والأثار المدمرة للتجنيد القسري التي قاساها جيلنا،،
وكأننا كنا نتعاقب على الأمكنة والشخصيات، وها نحن التقينا لنصنع ما تبقى من ذكريات معا
في 29 فبراير 2016 كنت أهم بزيارة مدحت في مقر عمله مركز تراكس، حيث يعمل مدربا، ولكن لظروف عائلية لم أستطع،
هاتفته مساء، فوجدت هاتفه مغلقا، اعتراني بعض القلق، حتى أتاني إتصال من رقم مجهول فاذا به مدحت يخبرني أن جهاز الأمن والمخابرات داهم مقر عمله وأحتجز الموظفين/ات والضيوف لساعات وصادر كل مقتنياتهم/ن الشخصية من حقائب وهواتف محمولة وكمبيوترات شخصية وسيارات وأخطروهم/ن بأن يحضروا للإستجواب بعد عدة أيام،
إستمرت الاستدعاءات لأسبوعين أو أكثر، ثم صودر جواز سفره.
ترافقنا في مارس 2016 لحضور إحدى جلسات محاكمة عضوي حزب الأمة، الأخوين عماد وعروة الصادق، اتفقنا على أنها مسألة وقت حتى نرى كل من نعرف ولا نستثني أنفسنا خلف القضبان،
أخبرته أنني أتمنى في قرارة نفسي أن أكون في قوة عماد وعروة وهما يصلان الى قاعة المحكمة ضاحكين مرفوعي الرأس، بينما يتفادى الشاكي والشهود من موظفي جهاز الأمن تبادل النظرات مع الحضور والمحامين،
بالرغم ما يملكون من سلطة وقوة الا أنها لاتصمد أمام الشجاعة والإصرار على المبادئ.
تحدثنا عن مستوى القمع والقهر الذي نعيش فيه، فالشقيقان في ذلك الوقت قد قضيا قرابة الأربعة أشهر في السجن، تتم محاكمتهم بتهم كثيرة من ضمنها تقويض النظام الدستوري، وذلك لأن لهم خلاف شخصى مع أحد الموظفين وأيضا بسبب تحديثات نشرت على صفحاتهم الشخصية في فيسبوك،
حتما إن إستمر هذا الحال،سنكون يوما خلف القضبان.
في أبريل 2016 بدأ مدحت في تعلم العزف على الجيتار، عمله متوقف لأجل غير مسمى، سيارته وهاتفه المحمول وكمبيوتره الشخصي وجواز سفره مصادرين، وقد منع من مغادرة الخرطوم الا بأذن.
في ظل هذا الحصار والتهديد إتجه لتعلم الموسيقى والقراءة، ولكن الوضع في الخرطوم استمر في التدهور.
أخبرني مدحت يوم السبت 21 مايو أنه قد تم استدعاؤه للحضور صباح الاحد لمباني جهاز الأمن، ورغم أنه لم يكن متفائلا فقد كان يأمل في أن ترد اليه ممتلكاته الشخصية وينتهي هذا التعطيل المتعمد لحياته،
لم أطمئنه فقبل أسبوعين وفي سابقة قد تتكرر، هاجم جهاز الأمن مكتب محاميه الأستاذ نبيل أديب أثناء اجتماع الاخير مع بعض موكليه من طلاب/ات جامعة الخرطوم المفصولين/ات، وأعتدى عليهم/ن بالضرب المبرح واختطفهم/ن تحت تهديد السلاح!!
"يا فردة اعمل حسابك إمكن ما تمرق بكرة" قلت له مازحة أن يستعد للأسوأ،
وقد كان..
هاهو مدحت يكمل يومه الثمانين في حراسة نيابة أمن الدولة بدون أن توجه له تهمة..
وها أنا ذا أقف عاجزة ككثيرين/ت من الأصدقاء، لا أملك سوى سرد ذكرياتنا والدعاء أن تظل بخير وتعود لتعلم الموسيقى، والتمني كل يوم أن يطلق سراحك،
ولكنني أيضا غير متفائلة،
إذ أن الشقيقين عماد وعروة لا يزالان في السجن، لأكثر من ثمانية أشهر، يواجهون تهما قد تصل عقوبتها للإعدام لأن أحدهم قال لموظف أمن "انت ما ود ناس" والأخر نشر في فيسبوك أن معتقلات جهاز الأمن في موقف شندي، وكأنها معلومة سرية!!
وتتنطق المحكمة أخيرا بالحكم في قضاياهما يوم 16/8 الثلاثاء.
لا مجال للتفاؤل في ظل هذا العبث..
كونوا بخير يا أصدقاء...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق