تتمحور أولى ذكرياتي في نهايات ثمانينيات القرن الماضي حول أمطار شديدة، منعتني والدتي من اللعب تحتها،
سقط أحد حوائط منزل جدتي الملاصق لمنزلنا والذي كنت أقضي فيه معظم أوقاتي، أذكر صوت ارتطام الحائط بالأرض والأحجار المبعثرة، وحبوبتي زينب وهي تحضر السخينة للعمال الذين تولوا تشييد الحائط لاحقا،
أتذكر لسعات البرد في ساعات الفجر الأولى، حين استيقظ على خطوات خالتي فتحية للحاق بجاراتنا فردوس و"ننس" حيث يترافقن للإصطفاف في طابور العيش،
أصرخ وأواصل الصراخ حتى تأخذني خالتي معها لصف العيش،
في يوم الانقلاب منعتني والدتي من التجول بلا داعي من منزلنا لمنزل حبوبة بحجة حظر التجول، وهو مالم أقدر على استيعابه وظللت أخترع الحجج وأقوم بازعاج البالغين لجعلي أنتقل من والى بيت حبوبة.
ثم أتت التسعينيات، حين القصص الأكثر رعبا ورواجا هي ذات الصلة بمداهمة الحفلات ومنع الرقص المختلط وفرض ارتداء التنانير الطويلة وغطاء الرأس وحملات اختطاف المراهقين والشباب من الذكور وتجنيدهم قسرا وارسالهم الي جبهات القتال في الجنوب، بجانب حكاوي العنف والتعذيب في جامعة الخرطوم حيث يدرس اشقائي الأكبر سنا ومشاهد تظاهرات طلاب جامعة الجزيرة في شوارع مدني، لأسباب لم أفهمها حينها.
تقبع تلك الفترة في مخيلة بعض المقربين كأحلك الفترات في تاريخ السودان الحديث، حين كانت حكومة الانقلاب في أكثر فتراتها بطشا. ولا يمكنني أن أستند الى ذاكرة طفولتي لتسمية تلك الحقبة بالأكثر سوءا، خاصة بعد معايشة الأحزان في سودان ما بعد استقلال جنوب السودان.
تنشغل ذاكرتي القصيرة بأحداث سيئة ومتشابهة يمكن ادراجها تحت أربعة أبواب رئيسة: الحرب، غلاء المعيشة، مظاهر القمع وإنهيار ما تبقى من بنى تحتية وخدمات. وفي هذه التدوينة وتدوينات لاحقة سأستعرض عشوائيا مواقف مختلفة من هذه الحقبة المظلمة.
في يوليو 2016، كنت في محطة مواصلات النالة في الخرطوم 3 أنتظر أحد الأقرباء ليقلني الى المنزل، عندما طلب مني رجل يبدو انه في العقد السادس أو السابع من العمر على كرسي متحرك وذو اعاقة حركية أن أحمل أغراضه وأضعها في المركبة العامة التي سيستقلها للسوق العربي. وقد تطوع أحد المارة بحمله الى مقعد الحافلة ووضع كرسيه المتحرك داخلها، وما هي الا دقائق حتى بدأت المركبات بالتوقف عند المحطة. ما أدهشني هو مسارعة البعض وتسابقهم للصعود الى المركبة بكل فظاظة وعدم مراعاة لظروف إعاقة هذا الرجل وإعطائه الأولوية، ولكن دهشتي الحقيقية حدثت عندما رفض سائقي أربعة مركبات عامة ومساعديهم توصيل الراكب، على ما يبدو بسبب اعاقته الحركية، حيث إعترضنا المساعد عند الصعود قائلا أنه لا يوجد مقعد شاغر، وفي ثلاثة من المركبات كان المقعد الشاغر على مرأى منا ولاذت المركبات فورا بالفرار..
وما هي الا أيام قليلة حتى رأيت رجلا آخر ذو إعاقة حركية يحاول عبور كبري المك نمر في مسار العربات، يساعده اخر محاولا دفع الكرسي فوق الاسفلت الملئ بالحفر والتعرجات..
بينما تمتلئ الخرطوم بلافتات عن مشاريع واحتفالات لذوي الاعاقة، تظل الشوارع، المرافق العامة ومركبات المواصلات غير متاحة لاستخدام الأشخاص ذوي الاعاقة، وقد علمت مؤخرا أن الاشخاص ذوي الاعاقة معفيين من تعرفة المواصلات العامة، طبعا اذا تمكنوا من استقلالها في المقام الاول..
الكهرباء والمياه تقطع بانتظام من أغلب أحياء الخرطوم في شهري أبريل ومايو،
هذه القطوعات لم تستثني المستشفيات أيضا،
تزدحم طرق الاسفلت المتهالكة وتعم الفوضى،
فاشارات المرور متوقفة لانقطاع التيار الكهربائي..
السيول والأمطار تفاجئ الخرطوم للمرة الثالتة في أربعة مواسم خريفية متتالية، وتتسبب في خسائر مادية فادحة وخسائر في الأرواح تخفي السلطات عددها، بعضها غرقا وبعضها للمفارقة صعقا بالكهرباء،
الكهرباء المنعدمة قبل أشهر قليلة تتسبب في عدد مقدر من الوفيات خلال الخريف، تشتد الأمطار يوم السادس من أغسطس وتخاطب احدى المذيعات المشاهدين السودانيين بكل جرأة، مطالبة اياهم بتوخي الحذر من الامطار والصعقات الكهربائية وكأنها تخبرهم بأن الموت صعقا او غرقا او سحقا تحت الانقاض مسئوليتهم الخاصة.
معتمد الخرطوم الجديد "ابو شنب" يتعهد بارجاع الخرطوم لسيرتها الأولى ويشن حملات اعتقال لكل من ترتدي بنطلون وتي شيرت ومن يرتدي شورت، ويتوعد بائعات الشاي بمنعهن من العمل العشوائي.
يتبع...
#التسعينات_جات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق