الأربعاء، 15 مارس 2017

امتنان

(بالحب نحقق النسوية والحرية)
ايناس مكاوي

استوقفتني كثيراً هذه المقولة للسفيرة ايناس مكاوي، لذلك سأحاول أن أسرد قصصاً معاشة عن الحب، النسوية والحرية

امتنان

كنت معدمة، أعمل مساءاً بدوام جزئي في صيدلية الحكيم، ادفع نصف راتبي لطارق، سائق الركشة الذي يتولى مهام توصيلي بسرعة معقولة الى المنزل بعد يوم طويل ومجهد. اما النهار فأقضيه في قاعات الدراسة بجامعة الاحفاد، بعد أن تركت العمل بوزارة الصحة، يفصلني فصل دراسي أخير، وخمسمائة جنيه سوداني (من الرسوم الدراسية) عن درجة الماجستير في دراسات الجندر والسلام. يمنعني الغرور والخجل من طلب متبقي الرسوم الدراسية من الاسرة، سمح لي صاحب الصيدلية بالعمل مساءاً يومياً حتى أتمكن من توفير بعض المال، كنت موقنة بأنه لن يكفي لسداد القسط.
ذات مساء اتصل بي أحد الاصدقاء مستأذناً تمرير رقم هاتفي لأحد اصحاب العمل كنت قد التقيته بايجاز قبل شهور عدة، ولحسن حظي أو ربما لسوءه قد هاتف هذا الصديق متسائلاً ان كنت أرغب في العمل لديه لمدة أسبوعين فقط. حاولت أن أفهم من هذا الصديق طبيعة العمل لكنه لم يكن يدري، وما هي الا دقائق حتى هاتفني صاحب العمل، لم يوضح شيئاً سوى أن مدة العمل اسبوعين فقط واذا كنت لا أمانع مبدئياً على أن اتوجه الى مكتبه غداً في الثامنة صباحاً.

في تلك الأمسية بعد أن تلقيت العرض للعمل لمدة أسبوعين كنت في غاية القلق، تنازعت في داخلي رهبة الخيبات والحاجة، الفضول والخوف من الخطوات الجديدة

تركت العمل بوزارة الصحة لكثرة المضايقات وعدم جدوى العمل في نظام متهالك، بعدها قضيت فترة تدريبية بإحدى المنظمات، ثم بدأت رحلة البحث عن عمل مليئة بالخيبات، وفي مرة لم يتوانى رجل (محترم) في منتصف العمر عن ابداء الاهتمام بايجاد وظيفة تناسب خبراتي لكنه لم يكن مهتماً بالنظر الى سيرتي الذاتية أو سؤالي عن مقدراتي المهنية بقدر اهتمامه بمهاتفتي بلا أسباب واضحة غير الثناء على مظهري ورقة تعاملي.

الخيبات تأتي من حاجتي للعمل، ليس فقط لأجل المال، ولكن لانني عاطلة المرة الاولى منذ تخرجي، ولأنني قد وضعت آمالاً كبيرة على العمل المدني (الحقوقي) ولم اتوقع أن أصطدم منذ البداية بهذه الممارسات التمييزية، تلك الخيبات جعلتني أهاب قبول الفرص الجديدة، خاصة غير الواضحة.

وليد كان هناك، لم يمنعه بعد المسافة بين امدرمان وكوبر، انعدام المواصلات العامة، اجهاد جلسات تأهيل ذوي الاعاقة، أو ضيق ذات اليد من زيارتي يومياً في الصيدلية، نتسامر ونفكر بصوت مسموع عندما تقل حركة الزبائن، يهدئ من غضبي بعد النقاشات اللاذعة مع الذكوريين، عديمي الموضوع وأطباء أنفسهم، يساعدني في اغلاق الباب الحديدي، ضحكاتنا وأزيز ماكينة الركشة وحكاوي طارق تفج وحشة الليالي،

في تلك الامسية  كان وليد حاضراً منصتاً لقلقي وخوفي، كنت في لحظة أعقد العزم على الذهاب لمقابلة صاحب العمل صباحاً مثلما اقترح، فيوافقني على ذلك، وثم أقرر الأ أذهب ولا أجيب على هاتقي ثانية، فيخبرني ان لا بأس بذلك طالمت انني غير مطمئنة،
تارة أتوجس الخوف والخيبة، وتارة يقتلني الفضول وأقول لنفسي بصوت مسموع أن هذا الخوف سيحرمني من الكثير.

"لو عايزة تمشي حأجيك بكرة الصباح أمشي معاك المقابلة، حانتظرك في أي حتة قريبة وما حأتحرك الا انتي معاي أو تقولي لي أمشي خلاص"

اقترح وليد مرافقتي للمقابلة ان اخترت الذهاب، أخبرني الا أتردد في فعل شئ أرغبه، وأنه سيكون دوماً موجوداً. بالفعل قابلته في السابعة والنصف صباحاً في المحطة الوسطى بحري حيث ترافقنا سوية الى الخرطوم، جلس عند بائعة شاي بالقرب من مكان المقابلة، هاتفته بعد ساعة وأنا في غاية الفرح لأخبره أنني سأعمل كمساعد باحث وأن صاحب العمل أراد أن يختبر مهاراتي البحثية ومعرفتي ببعض طرق البحث قبل توكيلي بالمهمة. كنت سعيدة ليس فقط لحصولي على فرصة للعمل ولكن لأن حبيبي للأشهر القليلة الماضية عاونني على التحرر من مخاوفي، لم يكشر عن أنيابه الذكورية آمراً وناهياً بما يجب وما لا يجب أن أفعله، مرافقته أنس وليست حماية، ولو لم يكن موجودا لرغبت بأن ترافقني احدى الصديقات للمقابلة. تذكرت حينها الحبيب الغابر المعتوه الذي ظن أنني يجب أخبره بكل تحركاتي "لانو موقفي شنو لو هو لاقاني بالصدفة في حتة"، او الحبيب الذي يمنح نفسه حق اتخاذ القرارات انابة عني.

العلاقات العاطفية في أغلب الاحيان تعبر عن الهيمنة الذكورية، حيث الحبيب هو الحامي لحبيبته من الذكور الآخرين، الغيور عليها منهم، لأنها في تقديره غير قادرة عن الدفاع عن نفسها من شرور بني جنسه، ضعيفة الارادة واختياراتها لاتنم عن رغباتها بل نتاج قوى مؤثرة خارجية "في الغالب آراءه أو آراء رجال آخرين"؛ لذلك يتحرق غيرة لأنه يحبها ويتوهم فقدها اذا تعاملت مع رجل آخر "زميل أو صديق" وتمكن الأخير من ارادتها. بالتالي فإن الحبيبة هي أنثى منزوعة الارادة، لا يمكنها التصدي للمعتدين من الرجال ويمكن أن تتخلى عن حبيبها لأن أغلب افعالها "بما فيها الحب والصداقة" ليست نتاج لاختياراتها وانما نتاج لمؤثرات خارجية وجبت حمايتها منها.

الحبيب الذي يتولى الوصاية والحماية، في محاولته للحفاظ على حبيبته الكائن الضعيف، يجردها من انسانيتها وأهليتها، يتنزع منها حريتها، وقراراتها ليست ملكاً لها لذلك هناك شك دائم في خيار حبها له. بالمقابل أي حبيب يفشل في دور الحماية والغيرة متهم في مشاعره ولا يعول عليه كرفيق وشريك حياة،
روت احدى زميلاتي في الدراسة انها انفصلت عن حبيبها الطالب لانه ذات مرة لأنه طلب منها أن تشاركه تكلفة سيارة الأجرة عند خروجهم للغداء معاً وأنه أيضا لم يجلس في المقعد الامامي في سيارة الاجرة "كما يفعل الرجال" بل جلس في المقعد الخلفي مجاوراً لها
زميلة أخرى تتفاخر أن حبيبها منعها من التحدث مع كل زملاء الدراسة بحجة الغيرة ولكنها لا تمانع ثرثرته لساعات طويلة مع زميلاته، رغم غيرتها وضيقها الا أنها تقول أنها تثق في حبه لها.

في اعتقادي إن الحب لا يتحقق الا بالحرية والقدرة على الاختيار، والحرية لا تتحقق الا بالنسوية، المفهوم الثوري بأن النساء والرجال كائنات متساوية الانسانية. لذلك يوم رافقني وليد الى مقابلة العمل كنت في غاية السعادة والامتنان، ليس لأنه كان حاميا لي، بل لأنه كان صديقا ابدى استعداده لأن يكون قريبا في لحظات الخيبات المحتملة.