الخميس، 11 أغسطس 2016

الخرطوم 2016: مدحت

أروي لكم اليوم عن أخي الذي لم تنجبه أمي، مدحت عفيف الدين.
صديقي الذي ناداني يوما بإصرار لأرى شيئا مهما وكان ذلك ورقة خطها حبيبي الغائب قبل سفره، في محاولة لكسر الكآبة التي تعتريني،
صديقي الذي نتحدث معا لساعات طوال عن أحاسيسنا، عن مستقبل البلد، تشاركنا الأحلام والجدال والدموع والأفراح،
التقيته في منتصف العام 2011 عندما وافاني الحظ بالعمل كمتدربة بمركز الخاتم عدلان للإستنارة، الذي أغلقه الأمن في نهاية العام 2012،،
كان العمل معه في نفس المساحة أشبه بأن تتسكع مع أقرب أصدقائك،
ومن المفارقة أننا تربينا في ذات المدينة، ود مدني، وصادقنا نفس الأشخاص ولكننا لم نلتق مسبقا قط حتى تلك اللحظة..
قضينا الساعات الطوال نتسامر بشغف عن ذكرياتنا في ودمدني، عن الفكي أبوحمامة صاحب الفناء المفروش بالذرة وعن زبائنه من الشخصيات المرموقة، أخبرته بشغف عن المرة التي دخلت فيها غرفته مرافقة لأحدى النساء من أقاربي، وهو يملك صقر وحمامة وثعبان في الغرفة...
تحدثنا كثيرا عن الفنانات الشهيرات في حقبة مراهقتنا مثل المغنية والفنانة الإستعراضية منى هول، واختفائها من الساحة الغنائية بمقابل الشهرة التي نالتها انصاف مدني وكيف أننا نفضل الأستاذة منى.
تحدثنا بحنين وشجن عن صديقنا الراحل حسام الهادي "الأسد" الذي خسر معركته ضد المرض مبكرا وهو في السنة الخامسة من كلية الهندسة،
وعن الألم الذي خلفه رحيله..
أنصت بحزن للتجارب التي عايشها مدحت وحسام سويا في الجنوب أثناء قضائهم للخدمة الإلزامية في العام 1998، والأثار المدمرة للتجنيد القسري التي قاساها جيلنا،،
وكأننا كنا نتعاقب على الأمكنة والشخصيات، وها نحن التقينا لنصنع ما تبقى من ذكريات معا

في 29 فبراير 2016 كنت أهم بزيارة مدحت في مقر عمله مركز تراكس، حيث يعمل مدربا، ولكن لظروف عائلية لم أستطع،
هاتفته مساء، فوجدت هاتفه مغلقا، اعتراني بعض القلق، حتى أتاني إتصال من رقم مجهول فاذا به مدحت يخبرني أن جهاز الأمن والمخابرات داهم مقر عمله وأحتجز الموظفين/ات والضيوف لساعات وصادر كل مقتنياتهم/ن الشخصية من حقائب وهواتف محمولة وكمبيوترات شخصية وسيارات وأخطروهم/ن بأن يحضروا للإستجواب بعد عدة أيام،
إستمرت الاستدعاءات لأسبوعين أو أكثر، ثم صودر جواز سفره.
ترافقنا في مارس 2016 لحضور إحدى جلسات محاكمة عضوي حزب الأمة، الأخوين عماد وعروة الصادق، اتفقنا على أنها مسألة وقت حتى نرى كل من نعرف ولا نستثني أنفسنا خلف القضبان،
أخبرته أنني أتمنى في قرارة نفسي أن أكون في قوة عماد وعروة وهما يصلان الى قاعة المحكمة ضاحكين مرفوعي الرأس، بينما يتفادى الشاكي والشهود من موظفي جهاز الأمن تبادل النظرات مع الحضور والمحامين،
بالرغم ما يملكون من سلطة وقوة الا أنها لاتصمد أمام الشجاعة والإصرار على المبادئ.

تحدثنا عن مستوى القمع والقهر الذي نعيش فيه، فالشقيقان في ذلك الوقت قد قضيا قرابة الأربعة أشهر في السجن، تتم محاكمتهم بتهم كثيرة من ضمنها تقويض النظام الدستوري، وذلك لأن لهم خلاف شخصى مع أحد الموظفين وأيضا بسبب تحديثات نشرت على صفحاتهم الشخصية في فيسبوك،
حتما إن إستمر هذا الحال،سنكون يوما خلف القضبان.

في أبريل 2016 بدأ مدحت في تعلم العزف على الجيتار، عمله متوقف لأجل غير مسمى، سيارته وهاتفه المحمول وكمبيوتره الشخصي وجواز سفره مصادرين، وقد منع من مغادرة الخرطوم الا بأذن.
في ظل هذا الحصار والتهديد إتجه لتعلم الموسيقى والقراءة، ولكن الوضع في الخرطوم استمر في التدهور.
أخبرني مدحت يوم السبت 21 مايو أنه قد تم استدعاؤه للحضور صباح الاحد لمباني جهاز الأمن، ورغم أنه لم يكن متفائلا فقد كان يأمل في أن ترد اليه ممتلكاته الشخصية وينتهي هذا التعطيل المتعمد لحياته،
لم أطمئنه فقبل أسبوعين وفي سابقة قد تتكرر، هاجم جهاز الأمن مكتب محاميه الأستاذ نبيل أديب أثناء اجتماع الاخير مع بعض موكليه من طلاب/ات جامعة الخرطوم المفصولين/ات، وأعتدى عليهم/ن بالضرب المبرح واختطفهم/ن تحت تهديد السلاح!!
"يا فردة اعمل حسابك إمكن ما تمرق بكرة" قلت له مازحة أن يستعد للأسوأ،
وقد كان..

هاهو مدحت يكمل يومه الثمانين في حراسة نيابة أمن الدولة بدون أن توجه له تهمة..
وها أنا ذا أقف عاجزة ككثيرين/ت من الأصدقاء، لا أملك سوى سرد ذكرياتنا والدعاء أن تظل بخير وتعود لتعلم الموسيقى، والتمني كل يوم أن يطلق سراحك،
ولكنني أيضا غير متفائلة،
إذ أن الشقيقين عماد وعروة لا يزالان في السجن، لأكثر من ثمانية أشهر، يواجهون تهما قد تصل عقوبتها للإعدام لأن أحدهم قال لموظف أمن "انت ما ود ناس" والأخر نشر في فيسبوك أن معتقلات جهاز الأمن في موقف شندي، وكأنها معلومة سرية!!
وتتنطق المحكمة أخيرا بالحكم في قضاياهما يوم 16/8 الثلاثاء.
لا مجال للتفاؤل في ظل هذا العبث..
كونوا بخير يا أصدقاء...

الاثنين، 8 أغسطس 2016

الخرطوم 2016

تتمحور أولى ذكرياتي في نهايات ثمانينيات القرن الماضي حول أمطار شديدة، منعتني والدتي من اللعب تحتها،
سقط أحد حوائط منزل جدتي الملاصق لمنزلنا والذي كنت أقضي فيه معظم أوقاتي، أذكر صوت ارتطام الحائط بالأرض والأحجار المبعثرة، وحبوبتي زينب وهي تحضر السخينة للعمال الذين تولوا تشييد الحائط لاحقا،
أتذكر لسعات البرد في ساعات الفجر الأولى، حين استيقظ على خطوات خالتي فتحية للحاق بجاراتنا فردوس و"ننس" حيث يترافقن للإصطفاف في طابور العيش،
أصرخ وأواصل الصراخ حتى تأخذني خالتي معها لصف العيش،
في يوم الانقلاب منعتني والدتي من التجول بلا داعي من منزلنا لمنزل حبوبة بحجة حظر التجول، وهو مالم أقدر على استيعابه وظللت أخترع الحجج وأقوم بازعاج البالغين لجعلي أنتقل من والى بيت حبوبة.

ثم أتت التسعينيات، حين القصص الأكثر رعبا ورواجا هي ذات الصلة بمداهمة الحفلات ومنع الرقص المختلط وفرض ارتداء التنانير الطويلة وغطاء الرأس وحملات اختطاف المراهقين والشباب من الذكور وتجنيدهم قسرا وارسالهم الي جبهات القتال في الجنوب، بجانب حكاوي العنف والتعذيب في جامعة الخرطوم حيث يدرس اشقائي الأكبر سنا ومشاهد تظاهرات طلاب جامعة الجزيرة في شوارع مدني، لأسباب لم أفهمها حينها.

تقبع تلك الفترة في مخيلة بعض المقربين كأحلك الفترات في تاريخ السودان الحديث، حين كانت حكومة الانقلاب في أكثر فتراتها بطشا. ولا يمكنني أن أستند الى ذاكرة طفولتي لتسمية تلك الحقبة بالأكثر سوءا، خاصة بعد معايشة الأحزان في سودان ما بعد استقلال جنوب السودان.

تنشغل ذاكرتي القصيرة بأحداث سيئة ومتشابهة يمكن ادراجها تحت أربعة أبواب رئيسة: الحرب، غلاء المعيشة، مظاهر القمع وإنهيار ما تبقى من بنى تحتية وخدمات. وفي هذه التدوينة وتدوينات لاحقة سأستعرض عشوائيا مواقف مختلفة من هذه الحقبة المظلمة.

في يوليو 2016، كنت في محطة مواصلات النالة في الخرطوم 3 أنتظر أحد الأقرباء ليقلني الى المنزل، عندما طلب مني رجل يبدو انه في العقد السادس أو السابع من العمر على كرسي متحرك وذو اعاقة حركية أن أحمل أغراضه وأضعها في المركبة العامة التي سيستقلها للسوق العربي. وقد تطوع أحد المارة بحمله الى مقعد الحافلة ووضع كرسيه المتحرك داخلها، وما هي الا دقائق حتى بدأت المركبات بالتوقف عند المحطة. ما أدهشني هو مسارعة البعض وتسابقهم للصعود الى المركبة بكل فظاظة وعدم مراعاة لظروف إعاقة هذا الرجل وإعطائه الأولوية، ولكن دهشتي الحقيقية حدثت عندما رفض سائقي أربعة مركبات عامة ومساعديهم توصيل الراكب، على ما يبدو بسبب اعاقته الحركية، حيث إعترضنا المساعد عند الصعود قائلا أنه لا يوجد مقعد شاغر، وفي ثلاثة من المركبات كان المقعد الشاغر على مرأى منا ولاذت المركبات فورا بالفرار..
وما هي الا أيام قليلة حتى رأيت رجلا آخر ذو إعاقة حركية يحاول عبور كبري المك نمر في مسار العربات، يساعده اخر محاولا دفع الكرسي فوق الاسفلت الملئ بالحفر والتعرجات..
بينما تمتلئ الخرطوم بلافتات عن مشاريع واحتفالات لذوي الاعاقة، تظل الشوارع، المرافق العامة ومركبات المواصلات غير متاحة لاستخدام الأشخاص ذوي الاعاقة، وقد علمت مؤخرا أن الاشخاص ذوي الاعاقة معفيين من تعرفة المواصلات العامة، طبعا اذا تمكنوا من استقلالها في المقام الاول..

الكهرباء والمياه تقطع بانتظام من أغلب أحياء الخرطوم في شهري أبريل ومايو،
هذه القطوعات لم تستثني المستشفيات أيضا،
تزدحم طرق الاسفلت المتهالكة وتعم الفوضى،
فاشارات المرور متوقفة لانقطاع التيار الكهربائي..

السيول والأمطار تفاجئ الخرطوم للمرة الثالتة في أربعة مواسم خريفية متتالية، وتتسبب في خسائر مادية فادحة وخسائر في الأرواح تخفي السلطات عددها، بعضها غرقا وبعضها للمفارقة صعقا بالكهرباء،

الكهرباء المنعدمة قبل أشهر قليلة تتسبب في عدد مقدر من الوفيات خلال الخريف، تشتد الأمطار يوم السادس من أغسطس وتخاطب احدى المذيعات المشاهدين السودانيين بكل جرأة، مطالبة اياهم بتوخي الحذر من الامطار والصعقات الكهربائية وكأنها تخبرهم بأن الموت صعقا او غرقا او سحقا تحت الانقاض مسئوليتهم الخاصة.

معتمد الخرطوم الجديد "ابو شنب" يتعهد بارجاع الخرطوم لسيرتها الأولى ويشن حملات اعتقال لكل من ترتدي بنطلون وتي شيرت ومن يرتدي شورت، ويتوعد بائعات الشاي بمنعهن من العمل العشوائي.

يتبع...

#التسعينات_جات