الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

حياتي بالحجاب وبدونه



 كنت لا أزال طفلة صغيرة وقت حدوث انقلاب الجبهة الاسلامية العسكري عام 1989 لذا فأنا لا أتذكر الكثير مما حدث. كل ما أتذكره هو أن أختي الكبرى كانت طالبة جامعية شديدة الأناقة وتمتلك كماً هائلاً من الأحذية والملابس الراقية، كانت مثلي الأعلى في الحياة. كنت أضع مكياجها على وجهي ، أرتدي ملابسها ، أحاول السير مرتدية أحذيتها وأقضي الساعات الطوال داخل خزانتها. جارتنا التي كانت تعمل محررة بمجلة الصبيان هي إحدى أجمل النساء اللائي قابلتهن في حياتي ؛ تمر علينا في الصباح الباكر ولا تستطيع البقاء لتناول الشاي معنا لأنني سأبدأ في البكاء وأطالبها بأن تسريح شعري تماماً كتسريحتها المرتبة على مدار الساعة.

كانت معلمتي بالصف الثاني الابتدائي تضربني كل صباح  بخرطوم المياه الأسود وأنا في السابعة من عمري لعدم ارتدائي الخمار. ولم أفهم سبب غضبها ولا ماهية الخمار. عندما علمت أمي بما يحدث قامت بتحويلي الى مدرسة جديدة واشترت لي طرحة بيضاء أجبرتني على ارتدائها كل يوم.

مرت السنون وأتى اليوم الذي حدثتني فيه أمي عن الزي المحتشم ، كنت حينها في الصف السابع، و كان الزي المحتشم عبارة عن تنورات طويلة وطرحة تغطي الشعر. زعمت أمي أنها ووالدي سيذهبان إلى الجحيم لعدم تربيتهما لي تربية صحيحة ما لم أرتد هذا الزي المحتشم ؛ و هي نفسها لم ترتد تنورات طويلة ولم تغط شعرها لذلك رفضت أن أغطي شعري ولكني اضطررت إلى ارتداء التنورات الطويلة لعدم وجود غيرها في السوق.

اثناء ارتباكي وحيرتي اضطرت أختي الكبرى إلى مغادرة البلاد بحثاً عن الرزق. أما جارتي الجميلة فقد بدأت ترتدي الطرحة تحت الثوب السوداني التقليدي حفاظاً على وظيفتها في وزارة التربية بعد أن تم إغلاق مجلتي الصبيان ، صباح وغيرهما. انتشرت القصص عن اقتحام الشرطة للحفلات الخاصة ومناسبات الزفاف واعتقال جميع الحاضرين بحجة الرقص المختلط بين النساء والرجال وبدأ الناس يتخوفون من حضور حفلات الزواج. بدأت كل جاراتنا في ارتداء الحجاب وحث أمي على ارتدائه أيضاً لأن هذه الطرحة تساعد أزواجهن كثيراً في الترقي وظيفياً. إلا أن أمي التي تعتبر نفسها مسلمة مؤمنة رفضت هذا النفاق قائلة إنها لم تتحجب بعد الحج ولذا لن ترتدي الحجاب ليحصل والدي على ترقية. وقد سألتها مرة لماذا تفرض الحجاب علي بينما لا ترتديه فأجابتني قائلة أنت يافعة وسوف يتحرشون بك ما لم ترتديه.

ارتديت الحجاب مرتين في حياتي استمرت أولاهما لمدة عام بأكمله أما الثانية فلم تستمر سوى خمسة أشهر.
بعد قبولي بجامعة الخرطوم قررت أن أجرب ارتداء الحجاب لأسباب مختلفة أولها أن الحجاب كان فرضا على طالبات الجامعة كما وجب علي توقيع تعهد بأني سوف أرتديه داخل الحرم الجامعي. أما ثاني الأسباب فهو اعتمادي على المواصلات العامة وقد أخبرني إخوتي بأن الفتيات اللائي لا يرتدين الحجاب يتعرضن للتحرش كثيرا، لذا إعتقدت بأني سأحصل على المزيد من حرية الحركة لوجود قطعة قماش تغطي شعري؛ وكان العديد من معارفي يرتدين الحجاب بل ويتنقبن لهذا الغرض. وإضافة إلى هذا وذاك فإن الحجاب يوفر الكثير من الوقت والمال اللازم لتصفيف شعري المجعد يومياً.
أن حياتي كمحجبة لم تسر بسلاسة كما توقعت. في أحد الأيام واتتني الفرصة كي أعبر عن رأيي في مناقشة عامة أقامها مؤتمر الطلاب المستقلين، ادعى أثناءها المتحدث بأن الإسلام سبب كل المشاكل في السودان. فرددت عليه قائلة بأن الإسلام لا يدمر حياتنا بل إن الإسلاميين هم من يقومون بذلك بنشرهم المفاهيم الخاطئة عن الإسلام. حالما انتهت مشاركتي التي لم تدم أكثر من ثلاث دقائق استلامت خطاباً مكتوباً فحواه عدم لياقة رفع المرأة لصوتها في مكان عام ناهيك عن حديثها عن الإسلام وهي في حد ذاتها مثال سيء للمرأة المسلمة بارتدائها ملابس غير محتشمة وتحدثها أمام الرجال. استمر هذا هجومهم علي لسنوات طوال كما اتخذ مختلف الاشكال. إلا أن ما أدهشني أكثر من ذلك هو منع الحرس الجامعي لي من دخول الجامعة مرات عديدة لأني لم أستعمل دبابيس لتثبيت طرحتي، أو لأن تنورتي مفتوحة من الجانبين، أو لارتدائي قميصاً ضيقاً بل وفي أحد الأيام لإرتدائي بنطالًا تحت تنورتي الطويلة.

اكتشفت حينها أن الحجاب لا معايير له فبينما كنت أعتقد أنني محجبة ؛ قرر الكثيرون بأنني غير محتشمة. فتوصلت إلى نتيجة بأن طريقة تزيؤي تخصني أنا وما أحبه وليس ما يرغبه الآخرون. ومن المثير للدهشة أن التحرش لم يتوقف بل ازداد بزيادة عدد المتأسلمين الذين تطوعوا للنصح والارشاد حول كيفية ارتداء الحجاب ولم يبخلوا على انفسهم  بالتحديق واطالة النظر وكأنهم لم يسمعوا بالآيات التي تتحدث عن غض البصر وحرمة اطالة النظر.

الاعتقاد بأن الفتيات السافرات لن يجدن من يرضى الزواج منهن كانت منتشراً وسط قريناتي وزميلات الدراسة. معظمهن بدأن بارتداء الحجاب وازداد تشددهن في تغطية أجسادهن من يوم إلى يوم بل إن بعضهن رفضن مصافحة الرجال. وبدأت العديد من صديقاتي في إظهار بوادر التدين مثل قراءة القرآن في الأماكن العامة والإمساك بمسبحة وعدم تفويت الفرصة لتلاوة دعاء بصوت عالٍ. إلا إنهن مع الأسف الشديد تناسين أثناء ذلك روح الإسلام ألا وهو الدين المعاملة، حرمة الغيبة والنميمة والتركيز على سلوكهن الشخصي بدلاً عن انتقاد سلوك الآخرين.

 ارتديت الحجاب ثانية في عام 2009 بعد فشل كافة محاولاتي لوقف التحرش الذي أتعرض إليه من قبل زملائي ومديري في العمل في مكتب حكومي مليء بأعضاء الجبهة الإسلامية القومية. تقدمت مراراً وتكراراً بشكاوى خطية ضد هؤلاء الزملاء بعد انتهاري لهم بشدة شخصياً و في وجود موظفين آخرين ولم تؤخذ شكاواي مأخذ الجد مطلقاً.  إن الشخص المسؤول عنها لم يتوانى عن ايجاد أعذارا للمتحرشين حتى بعد اصابة أصابعي بجروح اثناء القاء التحية على احدهم نتيجة لضغطه على يدي ضد خاتم كنت ارتديه يومها. وقد أُخبرت في العديد من المرات بأن متدربة مثلي لن تحصل على وظيفة دائمة ما لم تترك السفور. وصلت لقناعة بأن الشكاوى والصراخ في وجه المتحرشين لن يغير من الأمر شيئاً ما دام المسؤول عن الفصل في شكواي لا يخجل من استراق النظر تحت طاولة الاجتماعات والتحديق فيما يظهر من سيقان واقدام ، بل إنه في إحدى المناسبات طلب مني أن أسدل خماري على عنقي لأنه لم يعد قادراً على التحديق.

يومها بكيت ملء جفوني وبقيت في المنزل ليومين. عزمت على الاستقالة من عملي ومن مهنتي اذا استمر هذا الذل والمهانة. إذا تعذر علي بناء حياتي المهنية ومستقبلي بسبب ما أرتديه من ملابس ؛ و فقدت السيطرة على جسدي سأفقد احترامي لذاتي في سبيل مستقبلي العملي. حينها قررت أن أترك كلا الأمرين: عملي والحجاب.

أعود هنا إلى والدتي التي ساندتني طوال فترة التردد والارتباك وأعتقد أنني في مرحلة ما نقلت إليها عدوى الارتباك. لقد دعمت أمي كل قراراتي في ارتداء الحجاب أو التخلي عنه وشجعتني على الوقوف في وجه المتحرشين. عندما كنت أذرف دموع الغضب بسبب الذل الذي أتعرض له كانت تنتهرني قائلة "البكاء للصغيرات ، لم أنشئك لتقهري ، ليس عليك الاختباء بل الذهاب للعمل ومواجهة هؤلاء الاسلاميين وتلقينهم درساً". أمي التي انتابها الرعب عندما ألقي القبض على لبنى حسين لإرتدائها البنطال كانت دائمة التوجس بأن انتقام زملائي في العمل سيكون مماثلاً. كانت تخبرني عما كان يرتديه الناس حتى ثمانينات القرن الماضي من مختلف الأزياء والملابس التي تعتبر اليوم فاحشة وسافرة، وأن الرجال ما كانوا يجرؤون حينذاك على التحرش بامرأة بغض النظر عما كانت تكشفه من مفاتن. قد كانوا مسلمين حقاً بعكس الإسلاميين الذين يقومون بذلك بغض النظر عما تغطيه المرأة من مفاتن.


كنا نستمع معاً لخطبة الجمعة بانتظام وننتقد وصف المرأة بأنها سبب شرور كل الأمم. كنا نستغرب كيف لا يستحي الامام من الوصف الدقيق لمظهر النساء والفتيات في الشارع العام بطريقة لم تلحظها أياً منا؛ وكيف كان الامام "يواكب" صرعات الموضة وتسمياتها الرائجة والتي في كثير من الاحيان لم نكن نسمع عنها الا من منبر الجمعة الذي يخلص من التوصيف الى ايجاد صلة متوهمة بين النساء، غلاء المعيشة وحلول "البلاء" على الناس. كانت خطبة الجمعة كفيلة بانهاء ارتباكنا نحن الاثنتين عندما اقتنعنا بأن الحجاب لن يحمي النساء بل ما سيحميهن هو قدرتهن على التفكير، احترامهن وثقتهن بأنفسهن. وعدم السماح لغيرهن بتحديد ما هو صواب أو خطأ بالنسبة لهن.  

هناك تعليق واحد:

  1. عزيزتي Sudanese Dream،
    اقدر مدى غضبك من الجبهه الاسلاميه و كلنا يعلم مدى التناقض اذي يعيشون فيه بين الأسلمه و الفجور، وكلانا يعلم مدى التدهور الأخلاقي الذي صاحب فترة حكمهم..
    ولكن.
    الحجاب في المقام الأول هو فرض رباني لا دخل لهؤلاء القوم به،،و باعتبار انك انسانه ذكيه، مستقله، و معتده بنفسك لم تكوني مضطره لارتداءك الحجاب من الأصل اذا لم تكوني مقتنعه به .
    ثانيا ذكرت في مقالك "الاعتقاد بأن الفتيات السافرات لن يجدن من يرضى الزواج منهن كانت منتشراً " سيدتي لا زال هذا المعتقد سار الى الآن و لا اظن ان هنالك رجل قويم يرضى لنفسه بزوجه سافره.
    أأسف للاطاله، ولكن الحماس جرفني
    محمد المعز
    Twitter @mhmoiz

    ردحذف